هل يمكن لدولة الحزب الواحد أن تتحول إلى دولة الشعب الواحد بين عشية وضحاها ؟ وهل يمكن لدولة الاستبداد أن تعترف ببقية مكونات شعبها وأن تسمح لكل صوت مغمور فيها أن يرتفع؟ كل الذين عاشوا الاستبداد والقهر يعلمون علم اليقين أن الإجابة لا.
لا نفشي سراً حين نقول إن السلطات السعودية تصادر الحريات الدينية والسياسية لأطياف مجتمعها المتباينة. ولقد رفعت وزارة الداخلية في المملكة وتيرة الحرب الإعلامية والمواجهة بالرصاص لشباب الحراك المطلبي في القطيف في ظل أجواء الكراهية والبغضاء التي تجتاح شبه الجزيرة العربية تجاه المجتمع الشيعي الذي يمثل أكثر من ١٠٪ من سكان المملكة.
لا يجد المتتبع لمشكلة الاحتقار الطائفي لمعتنقي المذهب الشيعي في المملكة عموماً ولأهالي المنطقة الشرقية بشكل خاص أي عناء في اكتشاف حالة التشنج المذهبي تجاههم، ولقد تزايدت حدة ذلك التوتر في الأشهر القليلة الماضية ووصلت ذروتها بعد اعتقال الشيخ نمر النمر أحد أبرز المؤيدين للحراك السلمي في المنطقة الشرقية. يمكن لأي زائر لأحد الموقع الإلكترونية أو بمشاهدة أحد مقاطع الفيديو على موقع (يوتيوب) أن يقرأ كمية الامتهان والاحتقار الممارس ضد الشيعة في فضاء الإنترنت، والذي بدوره يكشف حقيقة التعامل الرسمي مع هذه الطائفة، فالدولة لا تجرم ولا تعاقب من يشتم أو يسب أو يحرض في العلن، ولها أياد تعمل في كب الزيت على النار في الخفاء.
إن انتشار وتزايد هذا العداء لطائفة الشيعة في المملكة يستمد قوته من كونه صنيع وزارة الداخلية، وإن قراءة سريعة للمشهد الديني "المتمذهب" في المملكة يؤكد ما يصرح به كثير من مثقفي الشيعة بأن الدولة مارست ضدهم الإقصاء والتمييز منذ تأسيسها. وتتحكم الحكومة السعودية وهي الراعي الرسمي للثورات المضادة في العالم العربي، تتحكم بمعيار الحقد والبغضاء بالدرجة والوقت الذي تريد، فهي لا تألو جهداً في تجنيد من يقومون بنفخ الكير في بوتقة مجتمع لم يعرف الاندماج منذ أن توحد بالإكراه تحت راية واحدة. ونقل المجتمع إلى سعير الطائفية لا يحتاج عندها إلى كثير من الجهد والميزانيات، فالكتب التكفيرية والتغريبية لمذهب التشيع سبقت عالم الفيس بوك والتويتر بعقود، والمجتمع بعد كل تلك الحروب الفكرية ضد هذه الطائفة على أتم الاستعداد لأن يتقبل أي دعوة تحريضية تجاه أصحاب هذه العقيدة، أو أن يصدّق أي فرية جديدة ضدهم.
وفي ظل المطالب المستمرة بالعدالة والمساواة في محافظة القطيف بدأت وزارة الداخلية في السعودية انتهاج أسلوب جديد في محاربة هذا الحراك الدائم مستخدمة عساكرها لتصوير من يختطفهم الأمن أو يقتلهم وهم في حالة من المهانة والذل ومن ثم بثها على (اليوتيوب) لإثارة النعرة الطائفية من جهة وكنوع من التشفي لكسب تأييد الشانئين لهذه الطائفة من جهة أخرى. وبث صور الشاب عبدالله اللاجامي (١٧ عاماً) وهو قتيل في قبضة رجال الأمن مضرجًا بدمه ملقى في دورة المياه دليل على ذلك النهج الذي يراد من خلاله الإهانة والاستفزاز وعسكرة المطالب المحقة وتغييبها في بئر الطائفية حتى الموت.
أثبت الحراك المطلبي في القطيف صموده لأكثر من عام وتجلت قدرته على المواصلة مهما كلف الأمر، وتشن وزارة الداخلية أقسى أنواع الحروب الإعلامية ضد هذا المكون في محاولة لتجاوز هذا الفشل الذريع وإيقاف الحراك الذي لم يثنه الترهيب ولا القتل. وهي تحرك ماكنة القتل الطائفية مستعينة بعدد من المأجورين من أساتذة جامعات وشخصيات معروفة يعملون كجنود مجندة في ساحات الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، يبثون الأحقاد ويحرضون أجهزة أمن الدولة للنيل من طائفة بأسرها مستخدمين أقلامهم ومواقعهم في إذكاء تلك النار الطائفية وبث لغة الكراهية دون أن يردعهم في ذلك رادع التقوى والخوف من الله ودون أن تمسهم أيادي وزارة الداخلية بسوء.
عاش المجاهرون بتشيعهم في هذا المجتمع لحقب طويلة وهم محرومون من تقلد المناصب العليا متعرضون لأسوأ أنواع التنكيل الفكري لانتسابهم لمذهب مخالف للمذهب الرسمي للدولة، وتتزايد في هذه الآونة التي يقوى فيها الحراك المطلبي دعاوٍ كثيرة من أولئك المأجورين ضد المجتمع الشيعي عامة ولقاطني محافظة القطيف بصورة خاصة، فمن التحريض على القتل الجماعي إلى الدعوة إلى إخراج الشيعة وتهجيرهم إلى إيران والدعوة إلى قتالهم جهاراً على مواقع التواصل الإجتماعي وليس انتهاءً بالمطالبة بسلبهم كل وسائل العيش الكريم وسلبهم حقوقهم الطبيعية كمواطنين كنيل فرص التوظيف والتعليم ردعاً لهم، متهمين شباب الحراك وأهالي المنطقة بولائهم وانتمائهم إلى الغريم الأكبر إيران وأنهم يعملون في تمهيد الهجمة الكبرى لتلك الدولة الشيعية على أهل السنة والجماعة! أما عن السباب والشتم فلا حصر له ولا عد حيث يبدأ بالوصف بالروافض والمجوس والكفار ويصل إلى القذف في الأعراض والطعن في الشرف.
وعلى الرغم من كل ذلك التجييش الإعلامي مدفوع الثمن من قبل وزارة الداخلية التي تستثمر سعير الطائفية لقتل واعتقال المزيد من الشباب في الشرقية إلا أنها لم تتمكن لحد الآن من ثني عزيمة شباب الحراك المطلبي، بل إنها لم تتمكن من الحد من دائرة الاحتجاج الآخذة في الاتساع بين أوساط المجتمع. وفي الوقت الذي تبدو فيه عاجزة عن أن تثبت للعالم ولو بصورة واحدة لمظهر من مظاهر التسلح التي تتهم فيه المتظاهرين السلميين، تظهر العديد من مقاطع الفيديو تعرُّض المتظاهرين العُزّل في محافظة القطيف للرصاص الحي وسقوط القتلى والجرحى، وتكشف هذه المقاطع صدق عزيمة هؤلاء المتظاهرين بثبات منقطع النظير أمام آلة القتل وهم يرددون "إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"، وتبوأت مقاطع الفيديو هذه مراكز متقدمة في موقع (اليوتيوب) للأكثر تفاعلاً على مستوى العالم، وشاهد العالم ذلك الثبات وبدأ يلتفت إلى حقيقة هؤلاء العزل الذين يتعرضون للقمع والقتل جهاراً، مما سيكون له بالغ الأثر في كشف حقيقة الأكاذيب التي تُسطر ضد الحراك في المنطقة الشرقية.
على الرغم من عدم وجود وئام اجتماعي كبير بين السنة والشيعة بسبب تلك الحملات الطائفية، إلا أن نهج الحراك في محافظة القطيف كان ولا يزال محط إعجاب كثير من الذين انكووا بنار الظلم والاعتقال، أصبح الحراك في القطيف ملهماً للمناطق الأخرى، فلم تخفِ أطياف ما في المجتمع السعودي انبهارها بما يظهره المجتمع القطيفي من تكاتف وتآزر من أجل قضيته، وبقوة إصراره وعزيمته في سبيل إحقاق الحق ونيل المطالب حتى ولو دفع لذلك أغلى ما يملك. وقد شد ذلك من عزم الذين شربوا من نفس كأس الظلم ،وظهرت عدد من المسيرات في أنحاء متفرقة في المملكة مستوحية على خجل من أدبيات هذا الحراك سائرة على الطريق الذي عبدته القطيف بدماء شبابها وجراحات المعذبين في السجون. تلك الاعتصامات وإن كانت تسير ببطء وعلى استحياء إلا أنها آخذة في التزايد والإصرار على المواصلة رغم ما تتوجس من خطورة ما ينتظرها من اعتقال وتعذيب.
في الوقت الذي تفشل فيه المساعي لنشر الحقد والضغينة بين أبناء الوطن الواحد وتنفضح العقيدة الطائفية لوزارة الداخلية، يتألق فيه شباب الحراك في محافظة القطيف وغيرها من المحافظات بتذرعهم بالصبر والثبات، ويكسبون بقوة الكلمة، الرأي العام المحلي والعالمي لتذهب كل مساعي الإحباط أدراج الرياح. إن ما يراد له أن يكون بقوة المال والسلاح لا يغير شيئاً من إرادة السماء، وإن عزيمة الحراك لدى شباب اليوم لا تعرف التراجع وقد تجاوزت أشد العقبات ولم تنثني، وعلى الباغي الذي يرقص على أشلاء الأبرياء منهم اليوم، على أنغام الطائفية المصطنعة أن ينتظر اللحظة التي تدور عليه فيها الدوائر. فقد بدأ العد العكسي بالفعل وعقارب الزمن لن تعود للوراء مرة أخرى.